لهيب وسط الثلوج


مع غنى وفرة الأيقونة الروسية المعروضة للبيع بأنحاء روسيا ، كان من العسير أن أجد ضالتى حتى وجدتها بإحدى معارض البيع بدير القديس سرجيوس القريب من موسكو ، هرعت إليها أحملها إلى صاحب المعرض الذى فاجأنى أنه لا يقبل بيعها إلا بالدولار الأمريكى نقداً ولا يقبل التعامل بأية ( كروت ) .. !! ، كانت لهجته حازمة ضيعت فرحتى وأفقدتنى التركيز كيف أحل المشكلة حتى لمحت نزيلاً بذات الفندق الذى أسكنه ، أمريكى غريب لم أخاطبه قبلاً وإن كنا نلتقى بالمصعد أحيانا فوجدت فيه الحل وتجرأت ( على غير عادتى وخلافاً لطبعى ) لأطلب منه سلفة بالدولار المطلوب واعداً أن أردها حال عودتنا إلى الفندق ، وكان الرجل لطيفاً بشوشاً فما تردد فى تحقيق الطلب الغريب ..فاقت فرحتى بأيقونة القديس ساروفيم ساروفسكى حد كل تصور ، وكأننى طفل إستلقيت على سريرى محتضناً الأيقونة رحت أتأملها بفرح ، فما دريت إلا وهى تسقط إلى صدرى وقد غلبنى النعاس بعد يوم مرهق فى شوارع موسكو بين كنائسها وميادينها الجميلة ..لم أكن أعلم أننى أحلم إلا بعد أن أفقت من نومى ، ولكننى فعلاً عشت حلماً جميلاً مع قديس عشقت أيقونة المسيح القدوس فى وجهه النورانى ، وقد أثرت سيرته فى شبابى أيما تأثير ، فقد كان كتاب قصته : ( لهيب فى وسط الثلوج ) ، كتاباً قرأته شاباً وبقيت كلماته محفورة فى كيانى والشيب يرسم خطوطه على ملامحى ببياض لحيتى ..قال لى : أنت فرح بالأيقونة ، لماذا كل هذا الفرح بمادة من الخشب والألوان ؟ أنت تقتنى أيقونة المسيح فى قلبك ، وهذا يكفى ..قلت له : أبى ، أنت كنت تحتفظ بأيقونة للسيدة والدة الإله فى كوخك البسيط ، لم يكن فى الكوخ أى أثاث ولا حتى سرير لنومك ، ومع نسكك وتحررك من القنية تماماً ، أحببت الأيقونة وإقتنيتها ..قال بإتضاع عجيب : وهل تقارننى بأم النور والدة الإله ؟ يا لك من كاهن طيب ..قلت : سيدى ، والدة الإله هى التى زارتك طفلاً بمنزل والدتك الأرملة الشابة ، هى التى لمست جنبك المريض بعكازها ومنحتك الشفاء قائلة لمن حولك ( هو من جنسنا ) ، وقد كررت ما حدث لك طفلاً بإسم ( بروخر ) وأنت راهب شاب مريض بالإستسقاء إذ لمست جنبك معلنة ( هو من جنسنا ) ، فهذه هى شهادة والدة الإله عنك سيدى ، أنت من جنس السمائيين ..قال : حبنا نحن الأرثوذكس للأيقونة ينبع من إنطباع صورة المسيح القدوس على طبيعتنا الفاسدة فتمنحها عدم الفساد ، المسيحى هو إعلان صورة الله للعالم ، ما يعجز العالم أن يفهمه بالأسفار المقدسة يستطيع أن يراه محققاً فينا ، هل يستطيع العالم أن يفهم كلمات المسيح القدوس عن محبة الأعداء إلا فينا ؟قلت : سيدى ، لقد إعتدى اللصوص على كوخك الصغير طامعين فى كنز ظنوا أنك تخفيه ، لقد رفضت أن تدافع عن نفسك وأنت تملك ( بلطة ) لتقطيع الخشب ، فقيدوك يالحبال وشجوا رأسك بالبلطة وكسروا ضلوعك وتركوك بين حى وميت ، وما قبضت السلطات المعنية عليهم حتى رفضت أن تشهد ضدهم وسامحتهم ..قال : لقد تعلمت هذا من سيدى ، وأظن أن البابا كيرلس السادس البطريرك القبطى فعل نفس الشيء حينما كان متوحداً بالطاحونة ، أى غرابة تراها فى ذلك ؟؟كان الرجل يتكلم كطفل ، فهو يتعجب حالى ويرى الأمر طبيعيا لا يستحق العجب .. فهو طفل فعلا بشهادة الأطفال الذين ما كان يقاوم أبداً طرقاتهم على باب كوخه طلبا فى منحهم البركة ، حتى إستخدمهم الكبار وسيلة ( وحيلة ) لإخراجه من وحدته متى أرادوا أخذ بركته فكانوا يرسلون بالأطفال قبلهم وكان لابد أن يستجيب بالخروج محتضناً إياهم .. قالت الطفلة الصغيرة التى أخذها إلى حضنه : ( كان صدره ساخناً ودقات قلبه متلاحقة ، لقد كان قلبه بمقاس قلبى تماما ً ) .. فلا عجب أن تأنس له الوحوش فى البرية ، ولا عجب أن يصادقه دب ضخم متوحش ويرافقه طيلة حياته معتاداً أن ينام تحت أقدامه .. !!نظرت وجهه المنير فرأيت هالة من النور حوله ، قال : لماذا تستغرب النور ، أنت وأنا أبناء النور والنهار ، لنا حرارة الروح ، البرودة الروحية ليست إلا من الشيطان الذى كان ملاكاً من نار وفقد طبعه النارى إلى البرودة التى يحاول بكل جهده أن ينقلنا إليها ، إن وجدت نفسك بارداً فاتراً فعليك أن تخف فعلاً ، هذا من الشيطان ، لا تقبل بضاعته أبداً ، عد إلى حرارتك وإطرح عنك الكسل وبرودة الشيطان ..ولهذا يا أبى كان لك هذا اللقب ( لهيب فى وسط الثلوج ) ، لقد تدربت على السهر والصلاة ومداومة قراءة الأسفار الإلهية حتى وصلت إلى ألف ليلة متصلة ، هكذا قرأت عنك ..إبتسم فى إتضاع مردداً : ( ياربى يسوع المسيح إرحمنى أنا الخاطى ) هذه هى الصلاة الدائمة التى تدربت على ترديدها بلا إنقطاع ، ومتى أشعل الله بها قلبك ، فمن منا يستطيع أن يطفئها ؟ هو عمل النعمة فينا ، إبدأ أنت بهذه الصلاة القصيرة وكن أمينا فى ترديدها وسترى كيف تشتعل النار فى قلبك تلقائياً حتى تقول " كفى ، كفى " ولا تحتمل حرارتها وإن كنت تستعذبها جداً ولا تستغنى عنها ..أفقت من غفلتى لأجد الأيقونة فوق صدرى وقد إنفكت عنها كفتى يدى ، حملتها وقبلتها متواتراً ومتفكراً فى أمر الحلم الجميل الذى رسمه عقلى الباطن ، فأنا لا أدعى الرؤى أبداً ولا أظنها زيارة حقيقىة للقديس ، فمن هو مثلى لا يستحق هذا الشرف وذلك الإعلان ، ولكنى أؤكد أن قراءاتنا لسير الآباء لابد أن تؤثر فى تكوين شخصياتنا وتنطبع فى فكرنا وكياننا ، وتظهر فى أحلامنا وتقدس أفكارنا .. نظرت إلى " ساعتى " لأعرف كم من الوقت غفوت حتى لمحت التاريخ الذى فوجئت به ، إنه التاسع عشر من يوليو ، يوم ميلاد الطفل " بروخر " عام ١٧٥٩ .. وقمت اليوم أكتب ذكرياتى مع قصته ، ومع أيقونته الجميلة ، ومع حُلمى اللطيف ، فإذا به الثانى من يناير ، يوم نياحة الراهب الروسى القديس ساروفيم الذى من صاروف عام ١٨٣٣ ..أعوام قليلة تفصلنا عنه ، أصلى ألا تفصلنا عنه برودتنا وتكاسلنا وتهاوننا .. أمين ـ أمين ، ليت لنا لهيب روحه ، وبراءه طفولته الدائمة ..

هل اعجبك الموضوع ؟

شارك معنا بتعليق حول الموضوع

No comments :

Post a Comment

كل

هانى وديع

اعمده الرأى

جميع الحقوق محفوظة المحترف للمعلوميات ©2012-2013 | ، نقل بدون تصريح ممنوع . Privacy-Policy | أنضم إلى فريق التدوين